قراءة تحليلية حول تعديلات مدونة الأسرة الجديدة: بين الاجتهاد الشرعي والمقتضيات القانونية الحديثة

 

قراءة تحليلية حول تعديلات مدونة الأسرة الجديدة: بين الاجتهاد الشرعي والمقتضيات القانونية الحديثة


تعد مدونة الأسرة في النظام المغربي من أبرز التشريعات التي شهدت تطورًا ملحوظًا في السنوات الأخيرة، مع دخول التعديلات الأخيرة التي تم إقرارها في 23 دجنبر 2024 مرحلة حاسمة، لتشكل نقطة تحول مهمة في مجال حقوق الأسرة، خصوصًا فيما يتعلق بحقوق المرأة والأطفال. هذه التعديلات، التي وافق عليها المجلس العلمي الأعلى، تمثل محاولة لتحديث قوانين الأسرة المغربية بما يتوافق مع التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي يعرفها المجتمع المغربي، مع الحفاظ على الثوابت الدينية التي تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الهوية المغربية تحت شعار الله، الوطن، الملك. وهي خطوة تعكس الرؤية الملكية التي تسعى إلى تثمين وتعزيز استقرار ثوابت الأسرة المغربية، باعتبارها عنصرا مهما لتكوين مجتمع متكامل. وتأتي هده الخطوة بعد ترأس صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله يوم الإثنين جلست عمل بالقصر الملكي بغية المسائل السبع عشرة المحالة على النظر الشرعي بخصوص مراجعة مدونة الأسرة   .

من خلال هذه التعديلات، يمكن مناقشة الموضوع من جانبين مختلفين:

·        الجانب الأول: التعديلات من المنظور الحقوقي والاجتماعي

من الواضح أن التعديلات الأخيرة التي أُدخلت على مدونة الأسرة تهدف إلى تحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية وتعزيز حقوق المرأة والطفل في سياق مجتمعي متطور. فقد تم التركيز على تعزيز الحقوق المالية للمرأة، وخاصة في إطار الاعتراف بمساهمتها في تنمية الأموال المكتسبة أثناء الزواج، بما في ذلك عملها المنزلي. هذه النقطة تبرز كيف أن القانون المغربي أصبح يقر بجهود المرأة داخل البيت وفي العمل، ليشمل ذلك حقوقًا مالية تمنحها الاعتراف الكامل في الاقتصاد الأسري .

 ومن جهة مقابلة فان التعديلات التي تمنح المرأة حقوقًا إضافية، مثل الاعتراف بمساهمتها المالية داخل الأسرة، قد تثير جدلًا حول مدى تأثيرها على التوازن بين مسؤوليات وحقوق كل من الزوجين. فقد يعتبر البعض أن هذه الخطوات قد تؤدي إلى تحميل الرجل المزيد من الأعباء المالية، بينما قد تُغفل مسؤوليات المرأة الأخرى داخل الأسرة.

كما تم تبني حق النفقة للزوجة بمجرد العقد عليها، مما يشكل حماية قانونية ضد الامتناع عن دفع النفقة من قبل الزوج، وهو ما يعزز استقلالية المرأة القانونية ويعطيها حقوقًا واضحة لمتابعة الحياة الزوجية بعد الدخول في العقد.    ج

إحدى النقاط الرئيسية الأخرى هي السماح للمغاربة المقيمين بالخارج بعقد الزواج دون الحاجة لحضور الشاهدين المسلمين في حال تعذر ذلك. هذا التعديل يعكس المرونة القانونية التي يأخذ بها النظام المغربي ليواكب تحديات الجاليات المغربية المقيمة في الخارج، ويسهل عليهم إجراءات الزواج بما لا يتعارض مع المبادئ الدينية الأساسية.

وبالطبع، تُعد مسألة حضانة الأطفال بعد الطلاق إحدى القضايا الأكثر حساسية في الأسرة المغربية. التعديل الذي ينص على استمرار حضانة الأم لأطفالها حتى وإن تزوجت مجددًا يعد خطوة هامة نحو حماية مصلحة الطفل. إذ يُنظر إلى الحضانة على أنها مسؤولية لا تتأثر بتغير الوضع الاجتماعي للوالدين، مما يساهم في استقرار الطفل نفسيًا وعاطفيًا  .

 كما يعتبر السماح للمرأة المطلقة بالحضانة بعد الزواج مرة أخرى قد يثير مخاوف تتعلق باستقرار الطفل في بيئة أسرية متعددة الأطراف. يرى المعارضون أن هذه التعديلات قد تؤدي إلى تعقيد العلاقات الأسرية وإضعاف الروابط التقليدية التي تربينا عليها وعكس ما يضن البعض انها انقرضت مع التقلبات الخارجية

·        الجانب الثاني: التعديلات من المنظور الديني والاجتهاد الشرعي

من جهة أخرى، تمثل بعض التعديلات تحديًا ل المرجعية الدينية التي يعتمد عليها النظام المغربي، وهو ما يظهر بوضوح في موقف المجلس العلمي الأعلى. فقد صرح المجلس بعدم قبوله لبعض التعديلات التي تتعارض مع الشرع الإسلامي، مثل استخدام الخبرة الجينية لحق النسب، وإلغاء قاعدة التعصيب في الميراث، والتوارث بين المسلم وغير المسلم.


  •      موقف المجلس العلمي الأعلى بشأن الاجتهاد الشرعي:

تعتبر هذه النقاط الثلاث بمثابة حدود شرعية لا يقبل فيها الاجتهاد. فالخبرة الجينية لا يمكن استخدامها لتحديد النسب، لأن الأمر يعود إلى أحكام الشريعة التي لا يجوز الاجتهاد فيها. كما أن قاعدة التعصيب في الميراث، التي تمنح الأقرباء الذكور حق الحصول على نصيب أكبر من الميراث في بعض الحالات، تُعتبر من القواعد الشرعية الثابتة التي لا يمكن تعديلها. وهذه النقطة بالخصوص شكلت نقاشا حادا في الآونة الأخيرة ليتم الحسم فيها. أما التوارث بين المسلم وغير المسلم فهو أمر مرتبط بمقتضيات الشريعة الإسلامية التي لا تجيز هذا النوع من التوارث بين الأديان المختلفة.

من خلال هذه الرفض لبعض المقترحات، يمكن ملاحظة أن التوازن بين الحداثة والشرع ما زال يمثل تحديًا في أي عملية إصلاحية للقانون. من هنا يظهر جليًا التفاعل بين الاجتهاد الفقهي والحقوق الفردية، وهو ما يجعل من الملك محمد السادس نصره الله شخصية محورية في هذا التوازن من منطلق إمارة المؤمنين، حيث يُعهد إليه في النهاية بتحديد المسار الأنسب الذي يحقق مصلحة الأمة دون الإضرار بالثوابت الدينية.

خاتمة:

إن عملية تعديل مدونة الأسرة المغربية تعكس محاولات التوفيق بين الحداثة والشرع. فتحديث القوانين من جهة يحتاج إلى التفاعل مع معطيات المجتمع المعاصر، مثل العولمة، وتزايد الوعي الحقوقي، وحقوق المرأة، بينما الحفاظ على المرجعية الدينية ضرورة لا غنى عنها في السياق المغربي. وها هنا يظهر دور إمارة المؤمنين في رعاية هذه التعديلات بشكل حكيم يوازن بين ما هو دين وما هو قانوني، بما يضمن استقرار المجتمع والحفاظ على تماسكه  .

بينما يمكن اعتبار التعديلات الأخيرة على مدونة الأسرة المغربية خطوة نحو التحديث، إلا أن هناك من يرى أنها لم تراعِ التوازن الكامل بين المرجعية الدينية ومتطلبات العصر الحديث. قد يُطرح التساؤل مرة أخرى  حول ما إذا كانت هذه التعديلات تحقق العدالة لجميع الأطراف، وحتى الأطراف غير المباشرة في البيئة الاسرية  أم أنها جاءت على حساب ثوابت دينية وثقافية وعرفية  تُعتبر أساس الهوية المغربية.

 

 

المقالة التالية المقالة السابقة
لا توجد تعليقات
اضـف تعليق
comment url